فصل: 15ـ فصل في فضل الإيثار وبيانه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **


كتاب ذم الغضب والحقد والحسد

اعلم‏:‏ أن الغضب شعلة من النار، وأن الإنسان ينزع فيه عند الغضب عرق إلى الشيطان اللعين، حيث قال‏:‏ ‏{‏خلقتني من نار وخلقته من طين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ فإن شأن الطين السكون والوقار، وشأن النار التلظي والاشتعال، والحركة والاضطراب‏.‏ومن نتائج الغضب‏:‏ الحقد والحسد، ومما يدل على ذم الغضب قول النبى صلى الله عليه وآله وسلم للرجل الذي قال له‏:‏ أوصني، قال‏:‏ ‏"‏لا تغضب‏"‏، فردد عليه مراراً، قال‏:‏ ‏"‏لا تغضب‏"‏‏.‏وفى حديث آخر أن ابن عمر رضى الله عنه سأل النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ماذا يبعدني من غضب الله عز وجل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا تغضب‏"‏‏.‏وفى المتفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”‏.‏وعن عكرمة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسيداً وحصوراً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ قال‏:‏ السيد الذي يملك نفسه عند الغضب ولا يغلبه غضبه‏.‏وروينا أن ذا القرنين لقي ملكاً من الملائكة فقال‏:‏ علمني علماً ازداد به إيماناً ويقيناً، قال‏:‏ لا تغضب، فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرد الغضب بالكظم، وسكنه بالتؤدة، وإياك والعجلة، فإنك إذا عجلت أخطأت حظك، وكن سهلاً ليناً للقريب والبعيد، ولا تكن جباراً عنيداً‏.‏وروينا أن إبليس لعنه الله بدا لموسى عليه السلام، فقال يا موسى‏:‏ إياك والحدة، فإني ألعب بالرجل الحديد كما يلعب الصبيان بالكرة، وإياك والنساء، فإني لم انصب فخاً في نفسي قط أثبت في نفسي من فخ أنصبه بامرأة، وإياك والشح، فإني أفسد على الشحيح الدنيا والآخرة‏.‏

وكان يقال‏:‏ اتقوا الغضب، فإنه يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل، والغضب عدو العقل‏.‏

وحقيقة الغضب‏:‏ غليان دم القلب لطلب الانتقام، فمتى غضب الإنسان ثارت نار الغضب ثوراناً يغلى به دم القلب، وينتشر بى العروق، ويرتفع إلى أعالي البدن، كما يرتفع الماء الذي يغلى في القدر، ولذلك يحمر الوجه والعين والبشرة وكل ذلك يحكى لون ما وراءه من حمرة الدم، كما تحكى الزجاجة لون ما فيها، وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه‏.‏فإن كان الغضب صدر ممن فوقه، وكان معه يأس من الانتقام، تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، فصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب من نظير يشك فيه، تردد الدم بين انقباض وانبساط، فيحمر ويصفر ويضطرب، فالانتقام هو قوت لقوة الغضب‏.‏والناس في قوة الغضب على درجات ثلاث‏:‏ إفراط، وتفريط، واعتدال‏.‏فلا يحمد الإفراط فيها، لأنه يخرج العقل والدين عن سياستهما، فلا يبقى للإنسان مع ذلك نظر ولا فكر ولا اختيار‏.‏والتفريط في هذه القوة أيضاً مذموم، لأنه يبقى لا حمية له ولا غيرة، ومن فقد الغضب بالكلية، عجز عن رياضة نفسه، إذ الرياضة إنما تتم بتسلط الغضب على الشهوة، فيغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة، ففقد الغضب مذموم، فينبغي أن يطلب الوسط بين الطريقين‏.‏واعلم‏:‏ أنه متى قويت نار الغضب والتهبت، أعمت صاحبها، وأصمته عن كل موعظة، لأن الغضب يرتفع إلى الدماغ، فيغطى على معادن الفكر، وربما تعدى إلى معادن الحس، فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه، وتسود الدنيا في وجهه، ويكون دماغه على مثال كهف أضرمت فيه نار، فاسود جوه، وحمى مستقره، وامتلأ بالدخان، وكان فيه سراج ضعيف فانطفأ، فلا يثبت فيه قدم، ولا تسمع فيه كلمة، ولا ترى فيه صورة، ولا يقدر على إطفاء النار، فكذلك يفعل بالقلب والدماغ، وربما زاد الغضب فقتل صاحبه‏.‏ومن آثار الغضب في الظاهر، تغير اللون، وشدة الرعدة في الأطراف، وخروج لأفعال عن الترتيب، واستحالة الخلقة، وتعاطى فعل المجانين، ولو رأى الغضبان صورته في حال غضبه وقبحها لأنف نفسه من تلك الحال، ومعلوم أن قبح الباطن أعظم‏.‏

1ـ فصل في بيان الأسباب المهيجة للغضب

قد عرفت أن علاج كل علة بحسم مادتها وإزالة أسبابها‏.‏فمن أسبابه‏:‏ العجب، والمزاح، والمماراة، والمضادة، والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهذه الأخلاق رديئة مذمومة شرعاً، فينبغي أن يقابل كل واحد من هذه بما يضاده، فيجتهد على حسم مواد الغضب وقطع أسبابه‏.‏

وأما إذا هاج الغضب فيعالج بأمور‏:‏

أحدها‏:‏ أن يتفكر في الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ، والعفو، والحلم، والاحتمال، كما جاء في البخاري من حديث ابن عباس رضى الله عنهما، أن رجلاً استأذن على عمر رضى الله عنه، فآذن له، فقال له‏:‏ يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل (1)‏ ، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضى الله عنه، حتى هم أن يوقع به ‏(2)‏‏.‏ فقال الحر بن قيس‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ‏:‏ ‏{‏خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر رضى الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل‏.‏الثاني‏:‏ أن يخوف نفسه من عقاب الله تعالى، وهو أن يقول‏:‏ قدرة الله على أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت فيه غضبى، لم آمن أن يمضى الله عز وجل غضبه على يوم القيامة فأنا أحوج ما أكون إلى العفو‏.‏ وقد قال الله تعالى في بعض الكتب‏:‏ يا ابن آدم‏!‏ اذكرني عند الغضب، أذكرك حين أغضب، ولا أمحقك فيمن أمحق‏.‏

الثالث‏:‏ أن يحذر نفسه عاقبة العداوة، والانتقام، وتشمير العدو في هدم أعراضه، والشماتة بمصائبه، فان الإنسان لا يخلو عن المصائب، فيخوف نفسه ذلك في الدنيا إن لم يخف من الآخرة وهذا هو تسليط شهوة على غضب ولا ثواب عليه، لأنه تقديم لبعض الحظوظ على بعض، إلا أن يكون محذوره أن يتغير عليه أمر يعينه على الآخرة، فيثاب على ذلك‏.‏

الرابع‏:‏ أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب على ما تقدم، وأنه يشبه حينئذ الكلب الضارى، والسبع العادي، وانه يكون مجانباً لأخلاق الأنبياء والعلماء في عادتهم، لتميل نفسه إلى الاقتداء بهم‏.‏

الخامس‏:‏ أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، مثل أن يكون سبب غضبة أن يقول له الشيطان‏:‏ إن هذا يحمل منك على العجز، والذلة والمهانة، وصغر النفس، وتصير حقيراً في أعين الناس، فليقل لنفسه‏:‏ تأنفين من الاحتمال الآن، ولا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك، وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس، ولا تحذرين من أن تصغري عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين‏.‏وينبغى أن يكظم غيظه، فذلك يعظمه عند الله تعالى، فماله وللناس‏؟‏ أفلا يجب أن يكون هو القائم يوم القيامة إذا نودي‏:‏ ليقم من وقع أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا، فهذا وأمثاله ينبغي أن يقرره على قلبه‏.‏

السادس‏:‏ أن يعلم أن غضبه إنما كان من شىء جرى على وفق مراد الله تعالى، لا على وفق مراده، فكيف يقدم مراده على مراد الله تعالى، هذا ما يتعلق بالقلب‏.‏

وأما العمل، فينبغي له السكون، والتعوذ، وتغيير الحال، وإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع، وقد أمرنا بالوضوء أيضاَ عند الغضب، فهذه الأمور وردت في الأحاديث‏.‏أما الحكمة في الوضوء عند الغضب، فقد بينها في الحديث‏.‏ كما روى أبو وائل قال‏:‏ كنا عند عروة بن محمد، فكلمه رجل بكلام، فغضب غضباً شديداً فقام وتوضأ، ثم جاء فقال‏:‏ حدثني أبى عن جدي عطية- وكانت له صحبة- قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ‏"‏‏.‏وأما الجلوس والاضطجاع، فيمكن أن يكون إنما أمر بذلك ليقرب من الأرض التي منها خلق، فيذكر أصله فيذل، ويمكن أن يكون ليتواضع بذله، لأن الغضب ينشأ من الكبر، بدليل ما روى أبو سعيد، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر الغضب وقال‏:‏ “من وجد شيئاً من ذلك، فليلصق خده بالأرض‏"‏ ‏‏‏.‏

وقيل‏:‏ غضب المهدى على رجل، فدعا بالسياط فلما رأى شبيب شدة غضبه، وإطراق الناس، فلم يتكلموا بشيء، قال‏:‏ يا أمير المؤمنين، لا تغضبن لله بأشد مما غضب لنفسه، فقال‏:‏ خلوا سبيله‏.‏

2ـ فصل في كظم الغيظ

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ والكاظمين الغيظ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏ فذكر ذلك في معرض المدح‏.‏وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال‏"‏من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء‏"‏‏.‏وروى عن عمر رضى الله عنه أنه قال‏:‏ من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون‏.‏

3ـ فصل في الحلم

روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم‏"‏ ‏(‏‏‏.‏‏"‏اطلبوا العلم، واطلبوا مع العلم السكينة والحلم، لينوا لمن تعلمون ولمن تعلمون منه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فيغلب جهلكم عليكم‏"‏ ‏.‏وقال صلى الله عليه وآله وسلم لأشج بن قيس ‏(3)‏‏:‏ ‏"‏إن فيك خلقين يحبهما الله ورسوله‏:‏ الحلم والأناة ‏"(4)‏‏.‏وشتم رجل ابن عباس رضى الله عنه فلما قضى مقتله، فقال‏:‏ يا عكرمة، انظر هل للرجل حاجة فنقضيها‏؟‏ فنكس الرجل رأسه واستحى‏.‏وأسمع رجل معاوية كلاماً شديداً فقيل له‏:‏ لو عاقبته‏؟‏ فقال‏:‏ إني لأستحي أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي‏.‏وأقسم معاوية نطعاً ‏ ، فبعث منها إلى شيخ من أهل دمشق فلم يعجبه فجعل عليه يميناً أن يضرب رأس معاوية، فأتى معاوية فأخبره، فقال له معاوية‏:‏ أوف بنذرك وارفق بالشيخ‏.‏وجاء غلام لأبى ذر وقد كسر رجل شاة له، فقال له‏:‏ من كسر رجل هذه‏؟‏ قال‏:‏ أنا فعلته عمداً لأغيظك، فضربنى، فتأثم‏.‏ فقال‏:‏ لأغظين من حرضك على غيظي، فأعتقه‏.‏وشتم رجل عدى ابن حاتم وهو ساكت، فلما فرغ من مقالته قال‏:‏ إن كان بقي عندك شئ فقل قبل أن يأتي شباب الحي، فإنهم إن سمعوك تقول هذا لسيدهم لم يرضوا‏.‏ودخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال‏:‏ أمجنونٌ أنت‏؟‏ فقال عمر‏:‏ لا، فهم به الحرس، فقال عمر‏:‏ مه، إنما سألني أمجنون‏؟‏ فقلت‏:‏ لا‏.‏ولقي رجل على بن الحسين رضى الله عنهما، فسبه، فثارت إليه العبيد، فقال‏:‏ مهلاً، ثم أقبل على الرجل فقال‏:‏ ما ستر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها ‏؟‏ فاستحى الرجل، فألقى عليه خميصة ‏(5) كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك يقول‏:‏ أشهد أنك من أولاد الرسول‏.‏وقال رجل لوهب بن منبه‏:‏ إن فلاناً شتمك، فقال‏:‏ ما وجد الشيطان بريداً غيرك‏.‏

4ـ فصل في العفو والرفق

أعلم‏:‏ أن معنى العفو أن تستحق حقاً فتسقطه، وتؤدى عنه من قصاص أو غرامة، وهو غير الحلم والكظم‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والعافين عن الناس‏}‏ ‏.‏‏[‏آل عمران‏:‏134‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فمن عفا وأصلح فأجره على الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏، وفى الحديث أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، قال‏:‏ ‏"‏ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله‏"‏‏.‏وعن عقبة بن عامر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏يا عقبة، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة‏؟‏ تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك‏"‏ ‏‏‏.‏وروى أن منادياً ينادى يوم القيامة‏:‏ ليقم من وقع أجره على الله‏؟‏ فلا يقوم إلا من عفا عمن ظلمه‏.‏وعن أنس رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ وإن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى عليه مالا يعطي على العنف‏"‏‏.‏وفى ‏"‏الصحيحين‏"‏ من حديث عائشة رضى الله عنها، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله‏"‏‏.‏وفى حديث آخر ‏"‏من يحرم الرفق يحرم الخير‏"‏‏.‏

5ـ باب في الحقد والحسد

اعلم‏:‏ أن الغيظ إذا كظم لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن، فاحتقن فيه فصار حقداً‏.‏وعلامته دوام بغض الشخص واستثقاله والنفور منه، فالحقد ثمرة الغضب، والحسد من نتائج الحقد‏.‏وعن الزبير بن العوام رضى الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء‏"‏ ‏‏‏.‏وفى ‏"‏الصحيحين‏"‏ عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، كونوا عباد الله إخواناً‏"‏‏.‏وفى حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب‏"‏ ‏.‏وفى حديث آخر أنه قال‏:‏ ‏"‏يطلع عليكم من هذا الفج ‏(6) رجل من أهل الجنة، فطلع رجل، فسئل عن عمله، فقال‏:‏ إني لا أجد لأحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه‏"‏‏.‏وروينا أن الله تبارك وتعالى يقول‏:‏‏"‏الحاسد عدو نعمتى، متسخط لقضائي، غير راض بقسمتي بين عبادي‏"‏‏.‏

وقال ابن سيرين‏:‏ ما حسدت أحداً على شئ من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة، فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا، وهو يصير إلى الجنة، وإن كان من أهل النار، فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا، وهو يصير إلى النار‏.‏وقال إبليس لنوح عليه السلام‏:‏ إياك والحسد، فإنه صيرني إلى هذه الحال‏.‏واعلم‏:‏ أن الله تعالى إذا نعم على أخيك نعمة، فلك فيها حالتان‏:‏

إحداها‏:‏ أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، فهذا هو الحسد‏.‏

والحالة الثانية‏:‏ أن لا تكره وجودها ولا تحب زوالها، ولكنك تشتهى لنفسك مثلها، فهذا يسمى غبطة‏.‏قال المصنف رحمه الله‏:‏

قلت‏:‏ واعلم أنى ما رأيت أحداً حقق الكلام في هذا كما ينبغي، ولابد لى من كشفه فأقول‏:‏اعلم‏:‏ أن النفس قد جلبت على حب الرفعة، فهي لا تحب أن يعلوها جنسها، فإذا علا عليها، شق عليها وكرهته، وأحبت زوال ذلك ليقع التساوي، وهذا أمر مركوز في الطباع‏.‏ وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏ثلاث لا ينجو منهن أحد‏:‏ الظن، والطِّيرة، والحسد، وسأحدثكم ما المخرج من ذلك، إذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ‏"‏ .‏وعلاج الحسد، تارة بالرضى بالقضاء، وتارة بالزهد في الدنيا، وتارة بالنظر فيما يتعلق بتلك النعم من هموم الدنيا وحساب الآخرة، فيتسلى بذلك ولا يعمل بمقتضى ما في النفس أصلاً، ولا ينطق، فإذا فعل ذلك لم يضره ما وضع في جبلته‏.‏فأما من يحسد نبياً على نبوته، فيجب أن لا يكون نبياً، أو عالماً على علمه، فيؤثر أن يرزق ذلك أو يزول عنه، فهذا لا عذر له، ولا تجبل عليه إلا النفوس الكافرة أو الشريرة، فأما إن أحب أن يسبق أقرانه، ويطلع على ما لم يدركوه، فإنه لا يأثم بذلك، فإنه لم

يؤثر زوال ما عندهم عنهم، بل أحب الارتفاع عنهم ليزيد حظه عند ربه، كما لو استبق عبدان إلى خدمة مولاهما، فأحب أحدهما أن يستبق‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وفى ذلك فليتنافس المتنافسون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 26‏]‏ (7)‏‏.‏وفى “الصحيحين” من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا حسد إلا في اثنتين‏:‏ رجل آتاه الله عز وجل القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه في الحق آناء الليل وآناء النهار‏"‏‏.‏

والحسد له أسباب‏:‏

أحدها‏:‏ العداوة، والتكبر، والعجب، وحب الرياسة، وخبث النفس،وبخلها، وأشدها‏:‏ العداوة والبغضاء، فإن من آذاه إنسان بسبب من الأسباب، وخالفه في غرضه، أبغضه قلبه، ورسخ في نفسه الحقد‏.‏

والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فمهما أصاب عدوه من البلاء فرح بذلك، وظنه مكافأة من الله تعالى له، ومهما أصابته نقمة ساءه ذلك، فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وإنما غاية التقى أن لا يبغي، وأن يكره ذلك من نفسه، فأما أن يبغض إنساناً فيستوي عنده مسرته ومساءته، فهذا غير ممكن‏.‏

وأما الكبر، فهو أن يصيب بعض نظرائه مالاً أو ولاية، فيخاف أن يتكبر عليه ولا يطيق تكبره، وأن يكون من أصاب ذلك دونه، فلا يحتمل ترفعه عليه أو مساواته‏.‏ وكان حسد الكفار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريباً من ذلك ‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ وقال في حق المؤمنين‏:‏ ‏{‏ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا‏}‏ ‏[‏ الأنعام‏:‏ 53‏]‏ وقال في آية أخرى ‏:‏ ‏{‏ما أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ ‏[‏يس ‏:‏ 15‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون‏}‏‏[‏ المؤمنون ‏:‏ 34‏]‏ فعجبوا وأنفوا من أن يفوز برتبة الرسالة بشر مثلهم فحسدوهم‏.‏

وأما حب الرياسة والجاه، فمثاله أن الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون ، إذا غلب عليه حب الثناء، واستفزه الفرح بما يمدح به، من أنه أوحد العصر، وفريد الدهر في فنه، إذا سمع بنظير له في أقصى العالم، ساءه ذلك وأحب موته، أو زوال النعمة التي بها يشاركه في علم ، أو شجاعة، أو عبادة، أو صناعة، أو ثروة، أو غير ذلك، وليس ذلك إلا لمحض الرياسة بدعوى الانفراد ‏.‏وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة النبى صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يؤمنون خوفاً من بطلان رئاستهم‏.‏وأما خبث النفس وشحها على عباد الله، فإنك تجد من الناس من لا يشتغل برئاسة ولا تكبر، وإذا وصف عند حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم عليه به، شق عليه ذلك، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم، وتنغيص عيشهم، فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته‏.‏

وقد قال بعض العلماء‏:‏ البخيل من يبخل بمال نفسه، والشحيح الذي يبخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمى الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه عداوة ولا رابطة، وهذا ليس له سبب إلا خبث النفس ورداءة الطبع، وهذا معالجته شديدة، لأنه ليس له سبب عارض، فيعمل على إزالته، بل سببه خبث الجبلة، فيعسر إزالته، فهذه أسباب الحسد‏.‏

6ـ فصل ‏[‏في سبب كثرة الحسد‏]‏

واعلم‏:‏ أنما يكثر الحسد بين أقوام تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، ويقع ذلك غالباً بين الأقران، والأمثال، والإخوة، وبنى العم، لأن سبب التحاسد توارد الأغراض على مقاصد يحصل فيها، فيثور التنافر والتباغض‏.‏ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، والإسكاف يحسد الإسكاف، ولا يحسد البزاز إلا أن يكون سبب آخر، لأن مقصد كل واحد من هؤلاء غير مقصد الآخر‏.‏فأصل العداوة التزاحم على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين، إذ لا رابطة بين شخصين في بلدين، ولا يكون بينهما محاسدة إلا من اشتد حرصه على الجاه، فإنه يحسد كل من في العالم ممن يساهمه في الخصلة التي يفاخر بها‏.‏ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين، وأما الآخرة، فلا ضيق فيها، فإن من احب معرفة الله تعالى، وملائكته، وأنبياءه، وملكوت أرضه وسماءه، لم يحسد غيره إذا عرف ذلك، لأن المعرفة لا تضيق على العارفين، بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف عالم، ويفرح بمعرفة غيره، فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة، لأن مقصودهم معرفة الله سبحانه، وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله، ولا ضيق فيما عند

الله، لأن أجل ما عند الله من النعيم لذة لقائه، وليس فيه ممانعة ولا مزاحمة‏.‏ولا يضيق بعض الناظرين على بعض، بل يزيد الأنس بكثرتهم، إلا أنه إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا‏.‏والفرق بين العلم والمال، أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن يد أخرى، والعلم مستقر في قلب العلم، ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل عن قلبه، ولا نهاية له، فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكه، وصار ذلك عنده ألذ من كل نعيم، لأنه لم يكن ممنوعاً عنه ولا مزاحماً فيه، فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق، لأن غيره لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته، فقد عرفت أنه لا حسد إلا في المتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل‏.‏ولهذا لا ترى الناس يتزاحمون على النظر إلى زينة السماء، لأنها واسعة الأقطار، وافيه بجميع الأبصار، فعليك إن كنت شفيقاً على نفسك أن تطلب نعيماً لا زحمة فيه، ولذة لا تتكدر، ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله تعالى وعجائب ملكوته، ولا ينال ذلك في المعرفة أيضاً، فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله سبحانه، ولم تجد لذتها، وضعفت فيها رغبتك، فلست برجل، إنما هذا شأن الرجال، لأن الشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقى من المحرومين‏.‏واعلم‏:‏ أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف حقيقة أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا، وأنه لا يضر المحسود في الدين ولا في الدنيا، بل ينتفع به، والنعمة لا تزول عن المحسود بحسدك، ولو لم تكن تؤمن بالبعث لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد، لما فيه من ألم القلب مع عدم النفع، فكيف وأنت تعلم ما فيه من العذاب في الآخرة‏.‏وبيان قولنا‏:‏ أن المحسود لا ضرر عليه في الدين ولا في الدنيا، بل ينتفع بحسدك في الدين والدنيا، لأن ما قدره الله من نعمة لا بد أن تدوم إلى اجله الذي قدره، ولا ضرر عليه في الأبخرة، لأنه لا يأثم هو بذلك، بل ينتفع به، لأنه مظلوم من جهتك‏.‏لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل وأما منفعته في الدنيا، فهو من أهم أغراض الخلق غم الأعداء، ولا عذاب أعظم مما أنت فيه من الحسد‏.‏ فإذا تأملت ما ذكرنا، علمت أنك عدو لنفسك، وهو صديق لعدوك، فما مثلك إلا كمثل من يرمى حجراً عدوه ليصيب مقتله فلا يصيبه، ويرجع الحجر على حدقته اليمنى فيقلعها، فيزيد غضبه، فيعود ويرميه بحجر أشد من الأول، فيرجع الحجر على عينه الأخرى فيعميها، فيزداد غيظه، فيرميه الثالثة، فيعود الحجر على رأسه فيشدخه، وعدوه سالم يضحكك منه، فهذه الأدوية العلمية، فإذا تفكر الإنسان فيها، أخمدت نار الحسد في قلبه‏.‏وأما العمل النافع فيه، فهو أن يتكلف نقيض ما يأمر به الحسد فإذا بعثه على الحقد والقدح في المحسود، كلف نفسه المدح له، والثناء عليه، وإن حمله الكبر، ألزم نفسه التواضع له، وإن بعثه على كف الأنعام عنه، ألزم نفسه زيادة في الإنعام‏.‏وقد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن شخصاً اغتابهم، أهدوا إليه هدية‏.‏فهذه أدوية نافعة للحسد جداً، إلا أنها مرة، وربما يسهل شربها أن يعلم أنه إذا كلن لا يكون كل ما تريد، فأرد ما يكون، وهذا هو الدواء الكلى، والله أعلم‏.‏

7 ـ باب في ذم الدنيا

الآيات الواردة في القرآن العزيز بعيب الدنيا، والتزهيد فيها، وضرب الأمثال لها كثيرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏14-15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏24‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏20‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا* ذلك مبلغهم من العلم‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 29-30‏]‏‏.‏وأما الأحاديث، ففى ‏"‏الصحيحين‏"‏ من رواية المستور بن شداد، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع‏؟‏‏"‏وفى حديث آخر‏:‏ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر‏"‏ رواه مسلم‏.‏وفى حديث آخر‏:‏ ‏"‏لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء‏"‏‏.‏ رواه الترمذى وصححه‏.‏وفى حديث آخر‏:‏ ‏"‏الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها‏"‏‏

وروى أبو موسى، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏من أحب دنياه، أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما بقى على ما يفنى‏"‏‏(‏‏(‏رجاله ثقات لكنه منقطع أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم‏.‏‏)‏‏)‏وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا كتاباً طويلاً فيه‏:‏ أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، كالسم يأكله من لا يعرفها وهو حتفه، فاحذر هذه الدار الغرورة الخيالة الخادعة، وكن آثر ما تكون فيها، أحذر ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن، وصفوها مشوب بالكدر، فلو كان الخالق لم يخبر عنه خبراً، ولم يضرب له مثلاً لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجل وعنه زاجر، وفيها واعظ، فما لها عند الله سبحانه قدر ولا وزن، وما نظر إليها منذ خلقها‏.‏

ولقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مفاتيحها وخزائنها، لا ينقصها عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبسطها لإعدائه اغتراراً، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها‏؟‏ ونسى ما صنع الله بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم حين شد على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر به، إلا كان قد نقص عقله، وعجز رأيه وما امسك عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها، إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه‏.‏

وقال مالك بن دينار‏:‏ اتقوا السحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء، يعنى الدنيا‏.‏ومن أمثلة الدنيا‏:‏ قال يونس بن عبيد‏:‏ شبهت الدنيا كرجل نائم، فرأى في منامه ما يكره وما يحب، فبينما هو كذلك انتبه‏.‏

ومثل هذا قولهم‏:‏ الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا‏.‏والمعنى انهم ينتبهون بالموت وليس في أيديهم شئ مما ركنوا إليه وفرحوا به‏.‏قيل‏:‏ إن عيسى عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء‏(‏(8)‏عليها من كل زينة‏.‏ فقال لها‏:‏ كم تزوجت‏؟‏ قالت‏:‏ لا أحصيهم‏.‏ قال‏:‏ فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك‏؟‏ قالت‏:‏ بل كلهم قتلت، فقال عيسى عليه السلام‏:‏ بؤساً لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين، كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد، ولا يكونون منك على حذر‏.‏وروى ابن عباس رضى الله عنه قال‏:‏ يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء‏(9)‏زرقاء أنيابها بادية، مشوه خلقها، فتشرف على الخلق، فيقال‏:‏ هل تعرفون هذه‏؟‏ فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه ‏.‏ فيقال ‏:‏ هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها وبها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم، فتنادى‏:‏ يا رب أين أتباعي وأشياعي‏؟‏ فيقول‏:‏ ألحقوا بها أتباعها وأشياعها‏.‏وعن أبى العلاء، قال ‏:‏ رأيت في النوم عجوزاً كبيرة عليها من كل زينة، والناس عكوف عليها متعجبون، ينظرون إليها، فقلت‏:‏ أعوذ بالله من شرك‏.‏ قالت‏:‏ إن أحببت أن تعاذ من شرى فأبغض الدرهم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة الخلقة حدباء‏.‏

مثال آخر‏:‏ واعلم أن أحوالك ثلاث‏:‏

حال لم تكن فيها شيئاً، وهى قبل أن توجد‏.‏

وحال أخرى، وهى من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي، فإن لنفسك وجوداً بعد خروجها من بدنك، إما في الجنة أو النار، وهو الخلود الدائم‏.‏

وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة، وهى أيام حياتك في الدنيا، فانظر إلى مقدار ذلك، وأنسبه إلى الحالتين، تعلم أنه أقل من طرفه عين في مقدار عمر الدنيا‏.‏ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن لها، ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضرر وضيق، أو سعة ورفاهية، ولهذا لم يضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة وقال‏:‏ ‏"‏مالي وللدنيا‏؟‏ إنما مثلى ومثل الدنيا كراكب قال (10)‏(‏‏(‏من القيلولة، وهى النوم في الظهيرة‏.‏‏)‏‏) "‏تحت الشجرة، ثم راح وتركها‏"‏‏.‏

وقال عيس عليه السلام الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها‏.‏ هذا مثل واضح، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة، والحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة‏.‏ومن الناس من قطع نصف القنطرة، ومن الناس من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيفما كان فلابد من العبور، فمن وقف يبنى على القنطرة ويزينها وهو يستحث للعبور عليها، فهو في غاية الجهل والحمق‏.‏

وقيل‏:‏ مثال طالب الدنيا، مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شراباً ازداد عطشاً حتى يقتله‏.‏

وكان بعض السلف يقول لأصحابه‏:‏ انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول‏:‏ انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم‏.‏

مثال آخر‏:‏ روى عن الحسن قال‏:‏ بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إنما مثلى ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذ لم يدوروا ما سلكوا منها اكثر ما بقى، أنفذوا الزاد واخسروا الظهر، وابقوا بين ظاهراني المفازة، لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا‏:‏ إن هذا قريب عهد بريف، وما جاء هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال‏:‏ يا هؤلاء، علام أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ على ما ترى‏.‏ قال‏:‏ عهودكم ومواثيقكم بالله‏.‏ قال‏:‏ فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله، ثم قال‏:‏ يا هؤلاء، الرحيل‏.‏ قالوا‏:‏ إلى أين‏؟‏ قال‏:‏ إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال أكثر القوم‏:‏ والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش خير من هذا‏؟‏ وقالت طائفة قليلة‏:‏ ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه‏؟‏ وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره‏.‏ قال‏:‏ فراح فيمن اتبعه، وتخلف بقيتهم فنزل عدو، فأصبحوا بين أسير وقتيل(11)‏وفى ‏"‏الصحيحين‏"‏ من حديث أبى موسى رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏إنما مثلى ومثل ما بعثتي الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال‏:‏ يا قوم، إني رأيت الجيش بعينى، وأنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذبته طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم‏.‏ فصبحهم الجيش في مكانهم، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من حق‏"‏‏.‏

8ـ فصل في بيان حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود

قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقاً، فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع، فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب‏.‏وقد وضع الله في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها، ظناً منهم أن هذا هو الزهد المراد، وجهلا بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين، وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم، ونحن نصدع بالحق من غير محاباة فنقول‏:‏اعلم‏:‏ أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ، وهى الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الأدنى، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكح، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله عز وجل، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به مدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنف الشره وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه، لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الآخرة فيفوت المقصود، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها ألوان الثياب، وينسى أن الرفقة قد سارت، فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو وناقته‏.‏

ولا وجه أيضاً للتقصير في تناول الحاجة، لأن الناقة لا تقوى على السير إلا بتناول ما يصلحها، فالطريق السليم هي الوسطى، وهى أن يؤخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك، وإن كان مشتهىً، فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها‏.‏وقد كان سفيان الثوري يأكل في أوقات من طيب الطعام، ويحمل معه في السفر الفالوذج‏.‏وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات في بعض الأوقات، فيقول‏:‏ إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال‏.‏ولينظر في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته، فإنهم ما كان لهم إفراط في تناول الدنيا، ولا تفريط في حقوق النفس‏.‏وينبغى أن يتلمح حظ النفس في المشتهى، فإن كان في حظها حفظها وما يقيمها ويصلحها وينشطها للخير، فلا يمنعها منه، وإن كان حظها مجرد شهوة ليست متعلقة بمصالحها المذكورة فذلك حظ مذموم، والزهد فيه يكون‏.‏

9ـ باب في ذم البخل والحرص والطمع

وذم المال ومدحه ومدح القناعة والسخاء، ونحو ذلك اعلم‏:‏ أن المال لا يذم لذاته بل يقع الذم لمعنى من الآدمي، وذلك المعنى إما شدة حرصه أو تناوله من غير حلة، أو حبسه عن حقه، أو إخراجه في غير وجهه، أو المفاخرة به، ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 28‏]‏‏.‏وفى ‏"‏سنن الترمذى‏"‏ عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه‏"‏‏.‏وقد كان السلف يخافون من فتنة المال‏.‏ وكان عمر رضى الله عنه إذا رأى الفتوح يبكى ويقول‏:‏ ما حبس الله هذا عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وعن أبى بكر لشر أراده الله بهما، وأعطاه عمر إرادة الخير له‏.‏وقال يحيى بن معاذ‏:‏ الدرهم عقرب، فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه‏.‏ قيل‏:‏ ما رقيته‏؟‏ قال‏:‏ أخذه من حله ووضعه في حقه‏.‏ وقال‏:‏ مصيبتان للعبد في ماله عند موته لا تسمع الخلائق بمثلهما، قيل‏:‏ ما هما‏؟‏ قال‏:‏ يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله‏.‏

10ـ بيان في مدح المال

قد بينا أن المال لا يذم لذاته بل ينبغي أن يمدح، لأنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين والدنيا، وقد سماه الله تعالى خيراً، وهو قوام الآدمي‏.‏ قال الله تعالى في أول سورة النساء‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء ‏(12)(‏‏(‏ السفه‏:‏ ضد الحلم، وأصله الخفة والحركة، والسفيه‏:‏ الجاهل، والمراد هنا‏:‏ الجهالة بموضع النفقة من الرجال‏)‏‏)‏‏) "‏ أموالكم التي جعل الله لكم قياماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏5‏]‏‏.‏وقال سعيد بن المسيب رحمه الله‏:‏ لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يكف به وجهه عن الناس، ويصل به رحمه، ويعطى منه حقه‏.‏وقال أبو إسحاق السبيعى‏:‏ كانوا يرون السعة عوناً على الدين‏.‏وقال سفيان‏:‏ المال في زماننا هذا سلاح المؤمنين‏.‏وحاصل الأمر؛ أن المال مثل حية فيها سم وترياق، فترياقه فوائده، وغوائله سمه، فمن عرف فوائده وغوائله، أمكنه أن يحترز من شره، ويستدر من خيره‏.‏

أما فوائده، فتنقسم إلى دنيوية ودينية‏:‏

أما الدنيوية، فالخلق يعرفونها، ولذلك تهالكوا في طلبها‏.‏

وأما الدينية، فتنحصر في ثلاثة أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ أن ينفقه على نفسه، إما في عبادة، كالحج والجهاد، وإما في الاستعانة على العبادة، كالمطعم والملبس والمسكن وغيرها من ضرورات المعيشة، فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر، لم يتفرغ القلب للدين والعبادة، وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به، فهو عبادة، فأخذ الكفاية من الدنيا للاستعانة على الدين من الفوائد الدينية، ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة على الحاجة، فإن ذلك من حظوظ الدنيا‏.‏

النوع الثاني‏:‏ ما يصرفه إلى الناس، وهو أربعة أقسام

أحدها‏:‏ الصدقة، وفضائلها كثيرة ومشهورة‏.‏

القسم الثاني‏:‏ المروءة، ونعنى بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وإعانة ونحو ذلك، وهذا من الفوائد الدينية، إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء‏.‏

القسم الثالث‏:‏ وقاية العرض نحو بذل المال لدفع هجو الشعراء، وثلب (13)‏السفهاء، وقطع ألسنتهم، وكف شرهم، فهو من الفوائد الدينية، فان النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏وما وقى الرجل به عرضه فهو صدقة ‏وهذا لأنه يمنع المغتاب من معصية الغيبة، ويحرز مما يثير كلامه من العداوة التي تحمل في الانتقام على مجاوزة حدود الشريعة‏.‏

لقسم الرابع‏:‏ ما يعطيه أجراً على الاستخدام، فإن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لمهنة أسبابها كثيرة، ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته، وتعذر عليه سلوك الآخرة بالفكر والذكر اللذين هما أعلى مقامات السالك، ومن لا مال له يفتقر إلى أن يتولى خدمة نفسه بنفسه، فكل ما يتصور أن يقوم به غيرك، ويحصل بذلك غرضك، فإن تشاغلك به غبن، لأن احتياجك إلى التشاغل بما لا يقوم به غيرك من العلم والعمل والذكر والفكر أشد‏.‏

النوع الثالث‏:‏ ما لا يصرفه الإنسان إلى معين، لكن يحصل عليه به خيراً عاماً، كبناء المساجد، والقناطر، والوقوف المؤبدة، فهذه جملة فوائد المال في الدين، سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة، من الإخلاص من ذل السؤال، وحقارة الفقر، والعز بين الخلق، والكرامة في القلوب، والوقار

وأما غوائل المال وآفاته، فتنقسم أيضاً إلى دينية ودنيوية‏:‏

أما الدينية فثلاث فئات

الأولى‏:‏ أنه يجر إلى المعاصي غالباً، لأنه من استشعر القدرة على المعصية، انبعثت داعيته إليها‏.‏

والمال نوع من القدرة يحرك داعيته إلى المعاصي، ومتى يئس الإنسان من المعصية، لم تتحرك داعيته إليها‏.‏

ومن العصمة أن لا تجد، فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهى هلك، وإن صبر لقي شدة في معاناة الصبر مع القدرة، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء‏.‏

الثانية‏:‏ أنه يحرك إلى التنعم في المباحات، حتى تصير له عادة وإلفاً، فلا يصبر عنها، وربما لم يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة، فيقتحم الشبهات، ويترقى إلى آفات من المداهنة والنفاق، لأن من كثر ماله خالط الناس، وإذا خالطهم لم يسلم من نفاق وعداوة وحسد وغيبة، وكل ذلك من الحاجة إلى إصلاح المال‏.‏

الثالثة‏:‏ وهى التي لا ينفك عنها أحد، وهو أن يلهيه ماله عن ذكر الله تعالى، وهذا هو الداء العضال، فإن أصل العبادات ذكر الله تعالى، والتفكير في جلاله وعظمته، وذلك يستدعى قلباً فارغاً‏.‏وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاحين ومحاسبتهم وخيانتهم، ويتفكر في منازعة شركائه في الحدود والماء، وأعوان السلطان في الخراج والأجراء على التقصير في العمارة ونحو ذلك‏.‏وصاحب التجارة يمسي ويصبح متفكراً في خيانة شريكه، وتقصيره في العمل، وتضيعه المال‏.‏وكذا سائر أصناف المال، حتى صاحب المال المجموع المكنوز يفكر في كيفية حفظه، وفى الخوف عليه‏.‏ومن له قوت يوم بيوم فهو في سلامة من جميع ذلك، وهذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا، من الخوف والحزن والهم والغم والتعب‏.‏فإذا ترياق المال أخذ القوت منه، وصرف الباقي إلى الخيرات، وما عدا ذلك سموم وآفات‏.‏

11ـ بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة واليأس

واعلم‏:‏ أن الفقر محمود، ولكن ينبغي للفقير أن يكون قانعاً، منقطع الطمع عن الخلق، غير ملتفت إلى ما في أيديهم، ولا حريص على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس‏.‏وقد روى في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏ عن عمرو بن العاص رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه‏"‏‏.‏وقال سليمان بن داود عليهما السلام‏:‏ قد جربنا العيش كله، لينه من شديده، فوجدناه يكفى منه أدناه‏.‏وفى حديث جابر رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ “القناعة مال لا ينفذ‏"‏‏.‏‏وقال أبو حازم‏:‏ ثلاث من كن فيه كمل عقله‏:‏ من عرف نفسه، وحفظ لسانه، وقنع بما رزقه الله عز وجل‏.‏وقرأ بعض الحكماء‏:‏ أنت أخو العز ما التحفت بالقناعة‏.‏أما الحرص، فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال‏:‏ ‏"‏أيها الناس، أجملوا في الطلب، فإنه ليس للعبد إلا ما كتب له‏"‏ونهى عن الطمع فقال‏:‏ ‏"‏اجمع اليأس مما في أيدي الناس‏(‏‏وقال بعضهم‏:‏ لو قيل للطمع‏:‏ من أبوك ‏؟‏ قال‏:‏ الشك في المقدور، ولو قيل له‏:‏ ما حرفتك‏؟‏ قال‏:‏ اكتساب الذل، ولو قيل له‏:‏ ما غايتك‏؟‏ قال‏:‏ الحرمان‏.‏وقيل‏:‏ الطمع يذل الأمير، واليأس يعز الفقير‏.‏

12ـ بيان علاج الحرص والطمعوالدواء الذي تكتسب به صفة القناعة

اعلم‏:‏ أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان‏:‏

الصبر، والعلم، والعمل، ومجموع ذلك خمسة أمور‏:‏

الأول‏:‏ الاقتصاد في المعيشة، والرفق في الإنفاق، فمن أراد اقناعة فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخروج ما أمكنه، ويرد نفسه إلى ما لابد منه، فيقنع بأي طعام كان، وقليل من الإدام، وثوب واحد، ويوطن نفسه على ذلك، وإن كان له عيال، فيرد كل واحد إلى هذا القدر‏.‏قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ “ما عال من اقتصد(14)‏وفى حدث آخر‏:‏ ‏"‏التدبير نصف العيش ‏وفى حديث آخر ‏"‏ثلاث منجيات‏:‏ خشية الله تعالى في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقير، والعدل في الرضى والغضب‏"‏‏.‏

الثاني‏:‏ إذا تيسر له في الحال ما يكفيه، فلا يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين بأن رزقه لا بد أن يأتيه، وليعلم أن الشيطان يعده الفقر‏.‏وعن ابن مسعود رضى الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن روح القدس نفث في روعى، أنه ليس من نفس تموت حتى تستكمل رزقها واجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل، فإنه لا يدرك عند الله إلا بطاعته‏"‏‏.‏

وإذا انسد عنه باب كان ينتظر الرزق منه، فلا ينبغي أن يضطرب قلبه، فإن في الحديث‏:‏ ‏"‏أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب‏(‏‏(‏أخرجه الديلمى من حديث أبى هريرة من رواية عمر بن راشد، وهو ضعيف جداً، وقال البيهقى‏:‏ ضعيف بالمرة، وأورده ابن لجوزي في ‏"‏الموضوعات‏"‏ز ورواه ابن حبان في ‏"‏الضعفاء‏"‏ من حديث على بإسناد واه‏.‏‏)‏‏)‏ا

الثالث‏:‏ أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الطمع والحرص من الذل ‏.‏وليس في القناعة إلا الصبر عن المشتبهات والفضول، مع ما يحصل له من ثواب الآخرة، ومن لم يؤثر عزَّ نفسه عن شهوته، فهو ركيك العقل، ناقص الإيمان‏.‏

الرابع‏:‏ أن يكثر تفكره في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى منهم، ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء والصالحين، ويسمع أحاديثهم، ويطالع أحوالهم، ويخير عقله بين مشابهة أراذل العالمين، أو صفوة الخلق عند الله تعالى، حتى يهون عليه الصبر على القليل والقناعة باليسير، وأنه إن تنعم بالأكل فالبهيمة أكثر أكلاً منه، وإن تنعم بالوطء فالعصفور أكثر سفاداً ‏(15)‏ منه‏.‏

الخامس‏:‏ أن يفهم ما في جمع المال من الخطر، كما ذكرنا في آفات المال، وينظر إلى ثواب الفقر، ويتم ذلك بأن ينظر أبداً من دونه في الدنيا، وإلى من فوقه في الدين، كما جاء في الحديث من رواية مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم‏"‏‏.‏‏عماد الأمر‏:‏ الصبر وقصر الأمل، وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل لتمتع دائم، فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لما يرجو من الشفاء‏.‏

13ـ فصل ‏[‏في لزوم القناعة لمن فقد المال‏]‏

ينبغي لمن فقد المال أن يستعمل القناعة كما ذكرنا، ولمن وجده أن يستعمل السخاء والإيثار واصطناع المعروف، فإن السخاء أخلاق الأنبياء، وهو أصل من أصول النجاة‏.‏وعن جابر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏قال جبريل عليه السلام‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ الإسلام دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه ‏‏وفى حديث آخر‏:‏ عن ابن عباس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏تجافوا عن ذنوب السخي، فإن الله آخذ بيده كلما عثر ‏‏وفى حديث آخر‏:‏ ‏"‏الجنة دار الأسخياء، وما جبل ولى الله إلا على السخاء ‏‏وعن أنس رضى الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بعبادة ولا بصيام، ولكن دخلوها بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للمسلمين ‏وفى حديث آخر‏:‏ ‏"‏عليكم باصطناع المعروف، فإنه يمنع مصارع السوء‏"‏‏.‏وقال ابن السماك‏:‏ عجبت ممن يشترى المماليك بماله، كيف لا يشترى الأحرار بمعروفه‏؟‏‏!‏

ومن حكايات الأسخياء

قد صح عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وأنه ما سئل شيئاً قط فقال‏:‏ لا وأن رجلاً سأله، فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى الرجل قومه، فقال‏:‏ يا قوم‏:‏ أسلموا، فإن محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفقر‏.‏وقيل‏:‏ كان لعثمان على طلحة رضى الله عنهما خمسون ألف درهم، فخرج إلى المسجد، فقال له طلحة‏:‏ قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال‏:‏ هو لك يا أبا محمد معونة على مروءتك‏.‏وجاء أعرابي إلى طلحة، فسأله، وتعرف إليه برحم، فقال‏:‏ إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم‏.‏وقال عروة‏:‏ رأيت عائشة رضى الله عنها تقسم سبعين ألفا، وهى ترقع درعها‏.‏وروى أنها قسمت في يوم ثمانين ألف بين الناس، فلما أمست قالت‏:‏ يا جارية علىَّ فطوري، فجاءتها بخبز وزيت‏:‏ فقالت لها أم درة‏:‏ أما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشترى لنا بدرهم لحماً نفطر عليه‏!‏‏؟‏ فقالت‏:‏ لو ذكرتني لفعلت‏.‏واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة داره التي في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل، سمع بكاء أهل خالد‏.‏ فقال لأهله‏:‏ ما لهؤلاء‏؟‏ قالوا‏:‏ يبكون على دراهم، قال ‏:‏ يا غلام‏:‏ ائتهم، فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعاً‏.‏

وبعث رجل إلى عبد الله أنه قد وصف لى لبن البقر، فابعث لى بقرة أشرب من لبنها‏.‏ فبعث إليه بسبعمائة بقرة ورعاتها، وقال‏:‏ القرية التي كانت ترعى فيها لك‏.‏

ودخل على بن الحسن على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه، فجعل يبكى‏:‏ فقال‏:‏ ما شأنك‏؟‏ قال‏:‏ على دين، قال‏:‏ كم هو‏؟‏ قال‏:‏ خمسة عشر ألف دينار، أو بضعة عشر ألف دينار‏.‏ قال‏:‏ فهي على‏.‏وجاء رجل إلى معن، فسأله، فقال‏:‏ يا غلام‏:‏ ناقتي الفلانية وألف دينار، فدفعها إليه وهو لا يعرفه‏.‏وبلغنا عن معن أن شاعر أقام ببابه مدة فلم يتهيأ له لقاؤه، فقال لبعض خدمه‏:‏ إذا دخل الأمير البستان فعرفني، قال‏:‏ فلما دخل عرفه، فكتب الشاعر بيتاً على خشبة، وألقاها في الماء الذي يدخل البستان، فلما بصر معن بالخشية، أخذها، فإذا فيها مكتوب‏:‏

أيا جود معن ناج معناً بحاجتي فما لى إلى معن سواك شفيع

فقال من صاحب هذه‏؟‏ فدعا الرجل، فقال له‏:‏ كيف قلت‏؟‏ فقاله، فأمر له بعشر بدر‏(16)‏ ، فأخذها ووضع الأمير الخشبة تحت بساطة فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط، وقرأ ما فيها ودعا الرجل، فدفع إليه مائة ألف درهم أخرى، فلما أخذها الرجل، خاف أن يعود فيستعيدها منه، فخرج، فما كان اليوم الثالث، قرأ ما فيها، فدعا الرجل فطلب فلم يوجد‏.‏ فقال معن‏:‏ حق على أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم ولا دينار‏.‏

ومرض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه، فقيل له، إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين‏.‏ فقال‏:‏ أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً، ينادى‏:‏ من كان عليه لقيس حق، فهو منه في حل، قال‏:‏ فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده‏.‏

وقام رجل إلى سعيد بن العاص يسأله، فأمر له بمائة ألف درهم، فبكى، فقال‏:‏ سعيد‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ أبكى على الأرض أن تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى‏.‏

14ـ فصل في البخل وذمه

عن أبى سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ خصلتان لا تجتمعان في مؤمن‏:‏ البخل وسوء الخلق‏"‏‏.‏‏

وقال صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً‏"‏

وفى أفراد مسلم، عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول‏:‏ ‏"‏ اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل‏"‏‏.‏وروى جابر رضى الله عنه، قال‏:‏ قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم لبنى سلمة‏:‏ ‏"‏ من سيدكم‏؟‏ قالوا‏:‏ جد بن قيس على أننا نبخله، قال‏:‏ وأي داء أدوأ من البخل‏؟‏ بل سيدكم بشر بن البراء بن معرور‏"‏وهي أصح ما من ذكر عمرو بن الجموح ، وغلط بعض الرواة ، فقال ‏:‏ البراء بن معرور، البراء مات قبل الهجرة‏.‏وعن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ثلاث مهلكات‏:‏ شح مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه‏"‏‏.‏

قال الخطابي‏:‏ الشح في المنع أبلغ من البخل‏.‏

وقال سلمان‏:‏ إذا مات السخي، قالت الأرض والحفظة‏:‏ رب تجاوز عن عبدك فى الدنيا بسخائه، وإذا مات البخيل قالت‏:‏ اللهم احجب هذا العبد عن الجنة، كما حجب عبادك عما جعلت في يديه من الدنيا‏.‏وقال بعض الحكماء‏:‏ من كان بخيلاً ورث ماله عدوه‏.‏وذم أعرابي قوماً فقال‏:‏ يصومون عن المعروف ويفطرون على الفواحش‏.‏

من حكايات البخلاء‏:‏

روى عن ابن عباس رضى الله عنه قال‏:‏ كان الحاجب رجلاً من أجل العرب، وكان بخيلاً، وكان لا يوقد ناراً بليل كراهة أن يراها راء فينتفع بضوئها، فإذا احتاج إلى إيقادها فأوقد ثم بصر بمستضيئ بها أطفأها‏.‏وقيل‏:‏ كان مروان بن أبى حفصة من أبخل الناس، فخرج يريد المهدى، فقالت له امرأته‏:‏ مالي عليك إن رجعت بالجائزة‏؟‏قال‏:‏ إن أعطيت مائة ألف درهم، أعطيتك درهماً، فأعطى ستين ألف درهم‏.‏ فأعطاها أربعة دوانق‏.‏وقيل‏:‏ كان بعض البخلاء موسراً كثير الأموال، وكان ينظر في دقائق الأشياء فاشترى شيئاً من الحوائج، ودعا حمالاً وقال‏:‏ بكم تحمل هذه الحوائج‏؟‏ قال‏:‏ بحبة‏:‏ قال‏:‏ أبخس‏.‏ قال ما أقل من حبة‏؟‏ لا أدرى ما أقول‏.‏ قال‏:‏ نشترى بالحبة جزراً، فنجلس جميعاً فنأكله‏.‏

15ـ فصل في فضل الإيثار وبيانه

اعلم أن السخاء والبخل درجات‏:‏

فأرفع درجات السخاء الإيثار، وهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه‏.‏وأشد درجات البخل، أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال، ويمرض فلا يتداوى، ويشتهى الشهوة فيمنعه منها البخل‏.‏فكم بين من يبخل على نفسه مع الحاجة، وبين ما يؤثر على نفسه مع الحاجة، فالأخلاق عطايا يضعها الله عز وجل حيث يشاء‏.‏وليس بعد الإيثار درجة في السخاء‏.‏ وقد أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإيثار، فقال‏:‏ ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏8‏]‏ وكان سبب نزول هذه الآية قصة أبى طلحة، لما آثر ذلك الرجل المجهود بقوته وقوت صبيانه، وحكايته مشهورة‏.‏

واستشهد باليرموك عكرمة بن أبى جهل، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وجماعة من بنى المغيرة، فأتوا بماءٍ وهم صرعى، فتدافعوه حتى ماتوا ولم يذقوه‏.‏أتى عكرمة بالماء فنظر إلى سهيل بن عمرو ينظر إليه، فقال‏:‏ ابدأ بهذا، ونظر سهيل إلى الحارث ينظر إليه، فقال‏:‏ ابدأ بهذا، وكل منهم يؤثر الآخر على نفسه بالشربة، فماتوا كلهم قبل أن يشربوا، فمر بهم خالد بن الوليد فقال‏:‏ بنفسي أنتم‏.‏وأهدى إلى الرجل من الصحابة رضى الله عنه رأس شاة، فقال‏:‏ إن أخي أحوج إليه منى، فبعث به إلى الرجل، فبعث به ذلك إلى آخر، حتى تداولته سبع أبيات، فرجع إلى الأول‏.‏خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخل لقوم فيها غلام أسود يعمل فيها، إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط كلب، فدنا من الغلام فرمى إليه قرصاُ فأكله، ثم رمى إليه قرصاً آخر فأكله، ثم رمى إليه ثالث فأكله، وعبد الله ينظر فقال‏:‏ يا غلام‏!‏ كم قوتك كل يوم‏؟‏ قال‏:‏ ما رأيت، قال‏:‏ فلم آثرت به هذا الكلب‏؟‏ قال‏:‏ ماهى بأرض كلاب، جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده، قال‏:‏ فما أنت صانع‏؟‏ قال‏:‏ أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر‏:‏ ألام على السخاء وهذا أسخى منى، فاشترى الحائط وما فيه من الآلات،

واشترى الغلام وأعتقه ووهبه له‏.‏واجتمع جماعة من الفقراء في موضع لهم وبين أيديهم أرغفة معدودة لا تكفيهم فكسروا الرغفان، وأطفؤوا السراج، وجلسوا للأكل، فلما رفع الطعام، إذا هو بحاله، لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لأصحابه‏.‏

16ـ فصل ‏[‏في حد البخل والسخاء‏]‏

وقد تكلم الناس في حد البخل والسخاء، فذهب قوم إلى أن حد البخل منع الواجب، وأن من أدى ما يجب عليه، فليس ببخيل، وهذا غير كاف، فإن من لم يسلم إلى عياله إلا القدر الذي يفرضه الحاكم، ثم يضايقهم في زيادة لقمة أو ثمرة فإنه معدود من البخلاء، فالصحيح أن البراءة من البخل تحصل بفعل الواجب في الشرع واللازم بطريق المروءة مع طيب القلب بالبذل‏.‏فأما الواجب بالشرع، فهو الزكاة، ونفقة العيال‏.‏وأما اللازم بطريق المروءة، فهو ترك المضايقة، والاستقصاء عن المحقرات فإن ذلك يستفتح، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد يستقبح من الغنى ما لا يستقبح من الفقير، ويستقبح من الرجل المضايقة لأهله وأقاربه وجيرانه مالا يستقبح من الأجانب، فالبخيل الذي يمنع مالا ينبغي أن يمنع، إما بحكم الشرع أو لازم المروءة‏.‏ ومن قام بواجب الشرع، ولازم المروءة، فقد تبرأ من البخل، لكن لا يتصف بصفة الجود مالم يبذل زيادة على ذلك‏.‏قال بعضهم‏:‏ الجواد‏:‏ هو الذي يعطى بلا من‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يفرح بالإعطاء‏.‏فأما علاج البخل، فاعلم أن سبب البخل حب المال‏.‏

ولحب المال سببان‏:‏

أحدهما‏:‏ حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، وإن كان قصير الأمل وله ولد، فإنه يقوم مقام طول الأمل‏.‏

الثاني‏:‏ أن يحب عين المال، فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره لو اقتصر على ما جرت عادته به، ويفضل معه آلاف، ويكون شيخاً لا ولد له، ثم لا تسمح نفسه بإخراج الواجب عليه، ولا بصدقة تنفعه، ويعلم أنه إذا مات أخذه أعداؤه، أو ضاع إن كان مدفوناً، وهذا مرض لا يرجى علاجه‏.‏

ومثال ذلك رجل أحب شخصاً، فلما جاء رسوله، أحب الرسول ونسى محبوبه واشتغل بالرسول، فإن الدنيا رسول مبلغ إلى الحاجات، فيحب الدنانير لذاتها، وينسى الحاجات، وهذا غاية الضلال‏.‏واعلم‏:‏ أن علاج كل علة بمضادة سببها‏.‏فيعالج حب الشهوات بالقناعة والصبر، وطول الأمل بكثرة ذكر الموت‏.‏ويعالج التفات القلب إلى الولد، بأن من خلقه معه رزقه، وكم ممن لم يرث شيئا أحسن حالاً ممن ورث‏.‏فليحذر أن يترك لولده الخير، ويقدم على الله بشر، فإن ولده إن كان صالحا فالله يتولاه، وإن فاسقاً فلا يترك ما يستعين به على المعاصي، وليردد على سمعه ما ذكرناه في ذم البخل ومدح السخاء‏.‏واعلم‏:‏ أنه إذا كثرت المحبوبات في الدنيا، كثرت المصائب بفقدها، فمن عرف آفة المال لم يأنس به، ومن لم يأخذ منه إلا قدر حاجته، وأمسك ذلك لحاجته فليس ببخيل، والله أعلم‏.‏